فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (45- 47):

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان، لا الذين احتالوا لهلاك الأنبياءِ كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة، والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم، أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي عمِلوا السيئاتِ، فقوله تعالى: {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الارض} مفعولٌ لـ (أمِن) أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ، وقوله: أن يخسف الخ، بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباءُ الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك، ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرضَ كما فعل بقارون، على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معاً، أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد، وقيل: هو عطفٌ على مقدر ينبىء عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا إلخ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيانَ ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم، {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير، والفاءُ إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على شدته وفظاعته حسبما قال عليه السلام: «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلته» وإيرادُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام النفي لا نفْيِ الدوام.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون، وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئةِ عن السكون بالإتيان، وقيل: التخوّفُ التنقّص، قال قائلهم:
تخوّفَ الرحلُ منها تامكاً قردا ** كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن

أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئاً بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا، والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها.

.تفسير الآيات (48- 49):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} استفهامٌ إنكاريّ، وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} أي من كل شيء {يَتَفَيَّأُ ظلاله} أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى، فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ، وقرئ بتأنيث الفعل {عَنِ اليمين والشمآئل} أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها، استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه {سُجَّدًا لِلَّهِ} حالٌ من الظلال كقوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والاصال} والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له، وقوله تعالى: {وَهُمْ داخرون} أي صاغرون منقادون، حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم، والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معينٍ من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم، منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد، والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى، ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالِها به، وكلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه، والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً، فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما، ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها، وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه، وقيل: المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ، وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض، وعند الزوالِ تبتدىء من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها، وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً، فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} {مَا فِي السموات} قاطبة {وَمَا فِي الأرض} كائناً ما كان {مِن دَابَّةٍ} بيانٌ لما في الأرض، وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ، والإفرادُ مع أن المرادَ الجمعُ لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب.
قال الأخفش: هو كقولك: ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثلُه {والملائكة} عطف على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيماً وإجلالاً، أو على أن يراد بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح، أو يراد به ملائكةُ السموات، وبقوله: والملائكةُ ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم {وَهُمْ} أي الملائكةُ مع علو شأنِهم {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته عز وجل والسجود له، وتقديمُ الضمير ليس للقصر، والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أو استئنافٌ أخبر عنهم بذلك.

.تفسير الآيات (50- 52):

{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}
{يخافون رَبَّهُمْ} أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم {مّن فَوْقِهِمْ} أي يخافونه جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أو يخافون أن يرسِل عليهم عذاباً من فوقهم، والجملةُ حالٌ من الضمير في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات، وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذانٌ بعدم الحاجةِ إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه، وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء، وبعد ما بُيّن أن جميعَ الموجودات يُخَصّون بالخضوع والانقياد أصلاً لله عز وجل أُردف ذلك بحكاية نهْيِه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل: {وَقَالَ الله} عطف على قوله: {ولله يسجد}، وإظهارُ الفاعل وتخصيصُ لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعيِّنُ الألوهية، وإنما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به لا أن المنهيَّ عنه مطلقُ اتخاذِ إلهين بحيث يتحقق الانتهاءُ عنه برفض أيِّهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} وإنما ذُكر العددُ مع أن صيغة التثنيةِ مغنيةٌ عن ذلك دلالةً على أن مساقَ النهي هو الاثنَيْنيّة وأنها منافيةٌ للألوهية كما أن وصفَ الإله بالوَحدة في قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} للدلالة على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية، وأما الإلهية فأمرٌ مسلَّمُ الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أُسند إليه القول، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيبة على رأي من اكتفى في تحقق الالتفاتِ بكون الأسلوب الملتفَتِ عنه حقَّ الكلام ولم يشترِط سبقَ الذكرِ على ذلك الوجه {فإياي فارهبون} التفاتٌ من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرهبة في القلوب ولذلك قدّم المفعولَ وكرر الفعلَ أي إن كنتم راهبين شيئاً فإيايَ فارهبون لا غيرُ فإني ذلك الواحدُ الذي يسجُد له ما في السموات والأرض.
{وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض} خلقاً ومُلكاً تقريرٌ لعلة انقيادِ ما فيها له سبحانه خاصة، وتحقيقٌ لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديمُ الحرفِ لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاصِ وكذا في قوله تعالى: {وَلَهُ الدين} أي الطاعةُ والانقياد {وَاصِبًا} أي واجباً ثابتاً لا زوالَ له لِما تقرّر أنه الإله وحده الحقيقُ بأن يُرهَبَ، وقيل: واصباً من الوصب أي وله الدين ذا كلفة، وقيل: الدينُ الجزاءُ أي وله الجزاءُ الدائمُ بحيث لا ينقطع ثوابُه لمن آمن وعقابُه لمن كفر {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعَقيبَ تقرّرِ الشؤون المذكورةِ من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له، ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غيرَ الله الذين شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون.

.تفسير الآيات (53- 55):

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}
{وَمَا بِكُم} أي أيُّ شيء يلابسكم ويصاحبكم {مِن نّعْمَةٍ} أية نعمةٍ كانت {فَمِنَ الله} فهي من الله، فما شرطيةٌ أو موصولة متضمّنة لمعنى الشرط باعتبار الإخبارِ دون الحصول فإن ملابسةَ النعمةِ بهم سببٌ للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} مِساساً يسيراً {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} تتضرعون في كشفه لا إلى غيره، والجُؤار رفعُ الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى:
يراوِحُ من صلَواتِ الملي ** ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

وقرئ: {تَجَرون} بطرح الهمزة وإلقاءِ حركتها إلى ما قبلها، وفي ذكر المِساس المُنْبىءِ عن أدنى إصابةٍ وإيرادِه بالجملة الفعلية المعربةِ عن الحدوث مع ثم الدالةِ على وقوعه بعد برهةٍ من الدهر وتحليةِ الضُّر بلام الجنس المفيدةِ لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الجنس مع إيراد النعمةِ بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيرادِ (ما) المعربةَ عن العموم ما لا يخفى من الجزالة والفخامة، ولعل إيرادَ إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} وقرئ: {كاشَفَ الضر}، وكلمةُ ثم ليست للدلالة على تمادي زمانِ مِساس الضرّ ووقوعِ الكشفِ بعد برهة مديدةٍ بل للدلالة على تراخي رتبةِ ما يترتب عليه من مفاجأة الإشراك المدلولِ عليها بقوله سبحانه: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} فإنّ ترتبها على ذلك في أبعد غايةٍ من الضلال، ثم إن وُجّه الخطابُ إلى الناس جميعاً فمِن للتبعيض والفريقُ فريقُ الكفرة، وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان، كأنه قيل: إذا فريق كافرون أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} فمن تبعيضية أيضاً، والتعرضُ لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبحِ ما ارتكبوه من الإشراك والكفران.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضَهم في الشرك كُفرانَ النعمة وإنكارَ كونها من الله عز وجل {فَتَمَتَّعُواْ} أمرُ تهديد، والالتفاتُ إلى الخطاب للإيذان بتناهي السَّخَط، وقرئ بالياء مبنياً للمفعول عطفاً على ليكفروا على أن يكون كفرانُ النعمة والتمتعُ غرضاً لهم من الإشراك، ويجوز أن يكون اللامُ لامَ الأمرِ الواردِ للتهديد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ أمرِكم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيدٌ أكيدٌ منبىءٌ عن أخذٍ شديد حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف.

.تفسير الآيات (56- 59):

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}
{وَيَجْعَلُونَ} لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مِساس الضرر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف، أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ إليها ما في الفعل من الضمير المستكنْ، وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون (ما) عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ، أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمِهم والمجعولُ له محذوفٌ للعلم بمكانه {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها {تالله لَتُسْئَلُنَّ} سؤالَ توبيخٍ وتقريع {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا بآلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها، وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيبة إلى الخطاب المنبىءِ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد ما لا يخفى.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ} هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله {سبحانه} تنزيهٌ له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيبٌ من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} من البنين، و(ما) مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأٌ والظرفُ المقدمُ خبرُه، والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه، وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى} أي أخبر بولادتها {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار أو دام النهارَ كلَّه {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياءِ من الناس، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىءٌ حَنقاً وغيظاً.
{يتوارى} أي يستخفي {مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} من أجل سوئِه، والتعبيرُ عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء {أَيُمْسِكُهُ} أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه {على هُونٍ} ذل، وقرئ: {هوانٍ} {أَمْ يَدُسُّهُ} يُخفيه {فِى التراب} بالوأد، والتذكيرُ باعتبار لفظ ما، وقرئ بالتأنيث {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد، والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه، ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}